
حين يحتج المسؤول ضد نفسه... عبث أم تهرب من المحاسبة ؟ رئيس جماعة يحتج على فشله ؟ من يحاسب من ؟
اعداد حسن الرملي
حين يتحول المسؤول إلى متظاهر ، والساكنة إلى شهود على العبث ، هل فقدت السياسة عقلها ؟
بعد ما يقارب عشر سنوات من التسيير ، هل يحق لرئيس جماعة أن يخرج للاحتجاج على مطالب بسيطة كان من المفروض أن يكون أول من يلبيها ؟
هل نعيش مشهدا سورياليا حين يقود منتخب مسيرة ضد نفسه ؟
هل يعقل أن يلبس الفشل قناع النضال ؟
وهل تحول الشارع إلى ملجأ للمسؤولين الفاشلين بدل أن يكون ساحة للمحاسبة ؟
كيف أصبح بعض من أداروا الشأن العام لعقد كامل ، يتقمصون اليوم دور المظلومين، بدل تقديم الحصيلة؟
تلك الأسئلة، وغيرها، يطرحها المشهد الغريب الذي شهدته جماعة ايت بوكماز، حين قرر رئيسها، بعد ما يقارب عشر سنوات في موقع القرار، أن يقود مسيرة احتجاجية يطالب فيها بمطالب تنموية بسيطة، في سلوك يثير أكثر من علامة استفهام حول معنى المسؤولية، وجدوى المحاسبة، وحدود الشعبوية في العمل السياسي.
في سابقة لا تخلو من الغرابة والتهكم، شهدت جماعة ايت بوكماز تنظيم مسيرة احتجاجية قادها رئيس الجماعة نفسه، وذلك بعد عشر سنوات من التسيير المتواصل. وقد جاءت هذه الاحتجاجات بمطالب تبدو للوهلة الأولى بسيطة للغاية، من قبيل توفير سيارة إسعاف وملعب وطبيب رسمي للمركز الصحي، غير أن ما يختبئ خلف هذه الشعارات الاجتماعية البسيطة هو مفارقة سياسية وأخلاقية عميقة، إذ يطرح السؤال الجوهري: ضد من يحتج هذا الرئيس؟ هل ضد الدولة ؟ أم ضد المسؤولين؟ أم ، ببساطة ، ضد نفسه ؟
ذلك أن المتابع للشأن المحلي في جماعة بوكماز يعلم جيدا أن هذا الرئيس لم يأت من فراغ، بل أمضى عشر سنوات تقريبا على رأس الجماعة، وهو ما يعني امتلاكه سلطة واسعة وصلاحيات قانونية معتبرة تخوله تدبير شؤون الساكنة. وبالتالي، فإن خروجه اليوم في مسيرة احتجاجية من أجل مطالب تنموية أساسية لا يمكن أن يفهم إلا كنوع من الانفصام السياسي، أو كعملية تهرب من المحاسبة عبر محاولة مكشوفة للتموقع في موقع الضحية.
وإذا تأملنا هذا السلوك، بدا من غير المنطقي أن يتحول من كان في موقع القرار لعقد من الزمن إلى متظاهر يرفع شعارات وكأنه مجرد مواطن مهمش لا يملك وسيلة للتغيير سوى الشارع. أوليس من الأجدر أن يسأل : لماذا لم تعمل الجماعة خلال هذه الفترة على اقتناء سيارة إسعاف ؟ ولماذا لم تنجح في التنسيق مع مصالح وزارة الصحة لتوفير طبيب دائم ؟ وأين ذهبت الميزانيات التي تم رصدها ؟ بل ما مصير الوعود الانتخابية التي تم الترويج لها خلال الحملات السابقة ؟
ولعل ما يزيد من حدة هذه المفارقة هو أن الرئيس المذكور ينتمي إلى حزب كان، خلال ولايته الأولى، جزءا من الأغلبية الحكومية، بل وكان ممثلا للمنطقة في البرلمان ضمن فريق الأغلبية، ما يعني أنه لم يكن فاعلا محليا فحسب، بل عنصرا مشاركا في السلطة التشريعية والتنفيذية على المستوى الوطني. غير أن الأمر تغير بعد تراجع موقع حزبه في الولاية الحالية، وتحوله إلى أقلية ضعيفة داخل البرلمان، فإذا بنا نرى الرجل نفسه يغير موقعه من المسؤول إلى "المعارض" ، بل ويتصدر المسيرات ويؤطرها، في مشهد لا يمكن تفسيره سوى كمحاولة يائسة لاسترجاع تعاطف الساكنة، لا عبر كشف الحصيلة أو الاعتراف بالإخفاق، وإنما عبر الهروب نحو الشعارات الاجتماعية.
إن هذه السلوكيات تسائل بشكل مباشر مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وهو مبدأ دستوري واضح لا غبار عليه. فالمسؤول الذي تولى التدبير لعقد كامل مطالب بتقديم الحساب، لا بالتظاهر، ولا بافتعال المظلومية في محاولة للتهرب من التقييم. إذ لا يعقل أن نحول الفشل في التدبير إلى ورقة ضغط سياسية، أو أن نلبس الاحتجاج لباس النضال بينما هو، في حقيقته، محاولة لتبييض سجل مليء بالإخفاقات.
وما يثير القلق أكثر هو احتمال أن يتحول هذا السلوك إلى نمط مألوف، بحيث يخرج كل مسؤول فاشل إلى الشارع محتجا على نتائج قراراته، عوض الخضوع للمحاسبة والتدقيق. وهنا تضيع هيبة العمل السياسي، وتفرغ الديمقراطية المحلية من جوهرها، ويترسخ الشعور بعدم جدوى صناديق الاقتراع والمؤسسات المنتخبة.
وانطلاقا من ذلك، فإن ما جرى في جماعة بوكماز لا يمكن التعامل معه كحدث احتجاجي عابر، بل هو مؤشر سلبي على غياب ثقافة المحاسبة، بل وتواطؤ بعض الفاعلين المحليين مع موجة الشعبوية المتنامية. لذلك، كان الأجدر بدل تنظيم المسيرات، فتح تحقيق نزيه وشامل في تدبير الجماعة خلال السنوات الماضية، مع تقديم تقارير مالية دقيقة للرأي العام المحلي، واتخاذ ما يلزم من إجراءات ضد كل من ثبت تقصيره أو تورطه في اختلالات التدبير، حتى وإن اقتضى الأمر الإحالة على الجهات القضائية المختصة.
فمن غير المقبول أن يستمر هذا العبث السياسي، حيث يصبح نفس الشخص هو الحكم والمتهم في الوقت نفسه، ويتحول موقع المسؤولية إلى منصة للشكوى لا للمساءلة. لقد آن الأوان لأن نقولها بوضوح : من تولى الشأن العام لا يملك امكانية الاحتجاج، بل عليه أن يقدم كشف الحساب، بكل شفافية وتجرد. وإلا فإن مصداقية العمل السياسي برمته ستكون على المحك.