الوضع الليلي
Image
  • 24/06/2025
إصلاح التقاعد المرتقب: عندما تحمل الدولة الموظف مسؤولية ما لم يقترفه فهي تجبره على دفع ثمن ما افسده الآخرون

إصلاح التقاعد المرتقب: عندما تحمل الدولة الموظف مسؤولية ما لم يقترفه فهي تجبره على دفع ثمن ما افسده الآخرون

يبدو أن الدولة ماضية مجددا في فرض ما تسميه "إصلاحا" لمنظومة التقاعد ، وهو في الحقيقة ليس إلا جولة جديدة من التضحية بمكتسبات الموظف العمومي ، بعد أن تم استنزافه في إصلاح 2016 ، واليوم يطلب منه أن يدفع الثمن مرة أخرى ، كأن لسان حال الدولة يقول : "من السهل أن نصلح على حساب الضعفاء"
ففي ظل هذا التوجه الحكومي أصبح لدى آلاف الموظفين العموميين شعور مر بأنهم سيجبرون ، مرة أخرى ، على تحمل تبعات أزمة لم يتسببوا فيها. فبعد مرارة الإصلاح المفروض عام 2016، والذي تحول في حقيقته إلى عملية خصم مباشر من حقوقهم ، ها هي الدولة تعود اليوم لتنتزع من جيوبهم وصحتهم ما تبقى من ضمانات تقاعدية وقدرات جسدية وعقلية ، تحت ذريعة "إنقاذ الصندوق من الإفلاس"

لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: من المسؤول الحقيقي عن إفلاس الصندوق المغربي للتقاعد ؟

الكل يعلم، وعلى رأسهم المسؤولون أنفسهم ، أن ما دفع إلى إصلاح 2016 ، وما يبرر الإصلاح المرتقب سنة 2025 ، هو إفلاس الصندوق المغربي للتقاعد . إفلاس لا علاقة له لا بعدد المتقاعدين ولا بنسبة الاستفادة، بل يرتبط أساسا بأسباب عميقة وخطيرة ، أبرزها التبديد وسوء التدبير ، كما ورد بالحرف في تقارير رسمية من قبيل تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية لسنة 2017 ، وتقرير المجلس الأعلى للحسابات للفترة ما بين 2016 و2017 
هذه المعطيات لم تنكرها الدولة ، لكنها بدل أن تتحمل مسؤوليتها في استرجاع الأموال المنهوبة ومحاسبة المتورطين في اختلاس ملايين الدراهم ، اختارت الطريق الأسهل: الموظف . فتم رفع سن التقاعد ، وزيادة الاقتطاعات الشهرية ، وخفض قيمة المعاشات 
الوثائق الرسمية لا تترك مجالا للشك. ورغم أن تقارير المجلس الأعلى للحسابات، ولجان تقصي الحقائق البرلمانية، كشفت عن اختلالات فادحة وصلت إلى حد التبذير والاختلاس ، لم نسمع عن متابعات قضائية جادة للمتورطين، ولا عن خطط استراتيجية ولا حتى نهجا عفويا ارتجاليا لاسترداد ما تم نهبه ولو من تحتها كما قال مول التقاشر. و بدلا من ذلك، كان الحل دائما هو معاقبة الضحية باجراءات قاسية ساهمت بشكل كبير في تعميق جرح كرامة المتقاعدين
هل يعقل أن يجبر الموظف ، و بعد عقود من العطاء وخدمة الوطن ، على أن ينهي حياته بمعاش لا يكفي حتى لشراء الأدوية ؟ كيف يطلب منه أن يصبر على الاكراهات المهنية الناتجة عن التدهور الصحي البدني منه والعقلي ، وينتج في ظروف قاسية، ثم يكافأ في في آخر ايامه بفتات لا يكفي لمصاريف الحياة الأساسية، في ظل غلاء متصاعد ومستوى خدمات صحية متدهور في القطاع العام، وجشع فاحش في القطاع الخاص ، وقد استنزفت الدولة كل قواه لزمن طويل ورمته يعاني من كل ما يمكن ذكره من الامراض المزمنة ؟

الخطير في الأمر أن هذا الإصلاح يتم في ظل صمت غير مفهوم من قبل جزء كبير من النقابات، وحياد بارد من الفاعلين السياسيين، وغياب شبه تام للضغط المدني والمخيف اكثر هو السكوت الرهيب الذي الجم الموظف نفسه. وكأن الجميع ارتضى أن يجرد الموظف من حقوقه، دون مساءلة ولا مقاومة

إن الموظف العمومي، الذي أُنهك بالإصلاحات الظالمة، لم يعد قادرا على تحمل المزيد من الاقتطاعات والقرارات الجائرة. الإصلاح الحقيقي لا يتم على حساب من لا حول لهم ولا قوة، بل يبدأ من حيث توجد المسؤولية، والمحاسبة، واسترجاع الأموال التي أُهدرت 

فالواجب الان هو خرق حاجز الصمت المشبوه الذي يرافق هذه الإجراءات. فالنقابات، والأحزاب، والهيئات الحقوقية، عليها ان تتخذ مواقف قوية ومشرفة ، ولا تكتفي بالتصريحات الاحتجاجية التي تتبخر مع أول جولة تفاوض . وعلى الجميع ان يعلم ان هذا التواطؤ المريب المعبر عنه بالصمت سواء كان مقصودا أو غير مقصود ، سيفتح الباب أمام المزيد من الانتهاكات، ويرسخ فكرة أن الموظف العمومي هو الطرف الأضعف الذي يمكن التضحية به في أي وقت
إننا اليوم أمام لحظة فارقة، فإما أن ننتفض لحماية ما تبقى من كرامة الموظف العمومي، أو نواصل الانحدار نحو نموذج يفرغ التقاعد من معناه، ويحوله إلى عبء نفسي واجتماعي على من أفنوا حياتهم في خدمة هذا الوطن
في النهاية، ليس هذا إصلاحا، بل هو استمرار لنهج الالتفاف على حقوق من خدموا الدولة بإخلاص . فطالما ظل الفاسدون بمنأى عن المحاسبة ، والمال العام يدار بمنطق الهدر ، فإن أي تعديل على نظام التقاعد لن يكون سوى غطاء لتحميل الموظفين فاتورة الأزمات التي صنعها غيرهم . فهل من صوت يعلو للدفاع عن كرامة هؤلاء قبل فوات الأوان ؟
فهل من مجيب ؟