الوضع الليلي
Image
  • 21/10/2025
التحول الرقمي للعدالة: نحو مفهوم “القاضي الإلكتروني” في المغرب بقلم : توفيق البقالي

التحول الرقمي للعدالة: نحو مفهوم “القاضي الإلكتروني” في المغرب بقلم : توفيق البقالي

هل يمكن أن يأتي يوم يصدر فيه القضاء المغربي أحكامًا آلية دون تدخل القاضي البشري؟ سؤال يبدو للوهلة الأولى أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، لكنه لم يعد بعيدًا عن النقاش في ظل التحولات الرقمية المتسارعة التي تعرفها العدالة المغربية، وفي سياق عالمي يتجه نحو دمج الذكاء الاصطناعي في أكثر المجالات حساسية: القضاء.

شهدت منظومة العدالة في المغرب خلال السنوات الأخيرة خطوات مهمة نحو الرقمنة، انتقلت بها من الطابع الورقي التقليدي إلى عصر المنصات الإلكترونية والتقاضي عن بُعد والتوقيع الرقمي وتبادل الملفات إلكترونيًا. هذه الخطوات، على أهميتها، ظلت إلى حد الآن في نطاق الشكل والإجراءات، ولم تمس جوهر القرار القضائي الذي ما زال حكرًا على الإنسان القاضي بما يحمله من وعي وتجربة وضمير. ومع ذلك، فإن التطور التكنولوجي الحاصل اليوم يدفعنا إلى طرح سؤال أعمق: هل يمكن للعقل القضائي المغربي أن يتطور يومًا ما نحو صيغة “إلكترونية” تعتمد على الذكاء الاصطناعي في إصدار الأحكام؟

في بعض الدول الرائدة في المجال الرقمي، مثل الصين وإستونيا، ظهرت تجارب قضائية تجريبية تعتمد على خوارزميات قادرة على تحليل المعطيات القانونية والاجتهادات السابقة، بل وحتى التنبؤ بمآل القضايا. هذا التحول جعل فكرة “القاضي الإلكتروني” تنتقل من الخيال العلمي إلى النقاش القانوني الواقعي. غير أن إسقاط هذه التجارب على السياق المغربي يثير إشكاليات متعددة، بعضها قانوني وبعضها فلسفي وأخلاقي. فمن الناحية القانونية، يبقى استقلال القضاء ومشروعية الأحكام باسم جلالة الملك وطبقا للقانون من الثوابت الدستورية الراسخة، وهو ما يجعل استبدال القاضي البشري بآلة أمرًا معقدًا ومتناقضًا مع روح الدستور. أما من الناحية الفلسفية، فإن العدالة ليست عملية حسابية، بل فعل أخلاقي يقوم على تقدير الظروف الإنسانية التي لا يمكن للخوارزمية استيعابها.

القضاء في جوهره ليس مجرد تطبيق آلي للنصوص القانونية، بل هو ممارسة رمزية لسلطة الدولة باسم الأمة. فالقاضي، حين يصدر حكمه، لا يمثل نفسه فقط، بل يجسد ضمير المجتمع وهيبة العدالة وثقة الناس في الإنصاف. غير أن هذه الرمزية مهددة بالانحسار حين تنتقل السلطة من “القاضي الإنسان” إلى “الخوارزمية”، لأن العدالة حينها تصبح بلا وجه، بلا نبرة، بلا مشاعر. فالآلة لا تعرف الندم ولا تدرك الدموع، ولا تفرّق بين متهمٍ نادم وآخر متعمد، إذ تعمل وفق منطق رياضي صارم لا يعرف العطف ولا يُقدّر المعاناة. وهنا تكمن المفارقة الرمزية الكبرى: حين يتحول القاضي من ضميرٍ حيّ إلى معادلة رقمية، تنتقل العدالة من فضاء الإنسانية إلى فضاء الحساب.

ورغم أن الحديث عن "القاضي الإلكتروني" في المغرب ما زال في طور المفهوم النظري، فإن المملكة بدأت بالفعل في بناء إطار قانوني وتنظيمي للتحول الرقمي للعدالة. ففي سنة 2020، أطلقت وزارة العدل المخطط التوجيهي للتحول الرقمي لمنظومة العدالة، وهو برنامج وطني يهدف إلى رقمنة المساطر القضائية، وتعميم التبادل الإلكتروني للوثائق، وتمكين المواطنين من متابعة قضاياهم عن بُعد، مع التأكيد على ضرورة تقنين هذه الممارسات قانونيًا لضمان الشفافية وحماية الحقوق.
كما تم تعديل قانون المسطرة المدنية بشكل يسمح بإدماج الإجراءات الرقمية في الأداء القضائي، وتوقيع مذكرة تفاهم بين وزارة العدل ووزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة لتعزيز التعاون التقني والإداري. هذه الخطوات تُظهر أن الدولة تسير بثبات نحو ترسيخ البنية القانونية للعدالة الرقمية، بما يؤسس لميلاد قضاء ذكي يعتمد على البيانات والتقنيات الحديثة دون المساس بروح العدالة واستقلاليتها.

من وجهة نظري، أرى أن الحديث عن “القاضي الإلكتروني” يجب أن يُفهم في سياقه الطبيعي، أي كأداة مساعدة لا كبديل عن القاضي البشري. فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغت قدراته، لا يستطيع أن يختصر التجربة الإنسانية للقاضي التي تتشكل عبر الاحتكاك اليومي بالناس والوقائع والضمائر. العدالة ليست منطقًا فقط، بل إحساس بالمسؤولية وتقدير للتفاوت الإنساني الذي لا يمكن برمجته في معادلة. لذلك، فإن إدماج الذكاء الاصطناعي في القضاء يجب أن يكون وسيلة لتجويد العمل القضائي، لا لإلغاء الإنسان من قلب المنظومة.

إن العدالة الحقيقية تحتاج إلى إنسانٍ قادر على الموازنة بين النص والوجدان، بين القانون والرحمة، وهو ما لا يمكن لأي خوارزمية، مهما بلغت دقتها، أن تفعله.
فالخطر الأكبر ليس أن نصنع آلة تفكر، بل أن نتخلى نحن عن التفكير. “القاضي الإلكتروني” قد يكون أداة مفيدة إذا بقي في موقع المساعدة، لكنه يصبح خطرًا إذا تحوّل إلى صاحب القرار. فالقانون، في نهاية المطاف، ليس مجرد نصوص جامدة، بل تفاعل بين قيم وإنسانية وتجربة، وكلما حاولنا أن نجرده من إنسانيته، فقدنا معناه الحقيقي.

إن مستقبل العدالة في المغرب لن يكون آليًا بالكامل، لكنه سيكون حتمًا مُعزّزًا بالذكاء الاصطناعي. وسيبقى السؤال الأعمق ليس: هل يستطيع القاضي الإلكتروني أن يصدر أحكامًا دقيقة؟ بل: هل يستطيع أن يصدر أحكامًا عادلة؟ فالعدالة ليست في الصواب التقني، بل في التوازن الإنساني بين الحق والرحمة.