في مهرجان عيساوة بمكناس، الذي أعاد للمدينة بريقها الروحي والصوفي، حضرت الفرجة واكتمل البهاء الفني، لكن التنظيم ــ مهما بدا جيدا ومحكما ــ انهار في لحظات أمام مشاهد عبثية تقودها سلطة خفية تمارس من وراء الستار: سلطة النفوذ، والعلاقات، و(أنا من طرف فلان).
فرغم البوابة الرسمية للدعوات، ورغم مجهودات رجال الأمن والفرق التنظيمية، تحول الدخول إلى المنصات إلى مسرح مفتوح لاستعراض العضلات الاجتماعية والسلطوية، حيث لا تمنح المقاعد بناء على بطاقة دعوة، بل بناء على من تعرف، وشكون صيفطك، واش من طرف اللي كيخلينا نشمو الأوكسجين، أو من يسمح لنا نفيقو الصباح من النعاس او ولد خالت مول الباش. عدد من المدعوين الرسميبن، من صحافيين ومثقفين وضيوف من خارج المدينة، فوجئوا عند البوابات بأن أماكنهم قد (احتلت)، وأن المنصة الخاصة بهم امتلأت قبل الموعد، دون أن يعرف كيف أو من؟ بعضهم طُلب منه الانتظار، وبعضهم لم يسمح له أصلًا بالدخول، لأن "المكان ممتلئ".
في المقابل، تسلل إلى المنصّة أشخاص لا علاقة لهم بالمجال، لا دعوة في يدهم، ولا صفة لهم، سوى أنهم (من طرف فلان)، أو فقط يعرفون من (يوزع الأدوار) في المدينة، ومن يمنح الحق في الحضور أو الغياب!
الخلل لا يقف عند حدود النفوذ، بل يمتدّ أيضًا إلى بعض سلوكيّات الجمهور، الذين يصرون على العبور من الحواجز، واحتلال الكراسي، وفرض وجودهم بصوت مرتفع. وهناك من يستعمل العائلة كذريعة للتسلّل الجماعي، ومن يلوّح بهاتفه قائلًا: "غادي نعيّط لفلان"، وكأنّ السلطة تُبرّر الفوضى.
هذه المشاهد تتكرر في كل مهرجان، لكنها في مهرجان روحي مثل عيساوة تصبح أكثر صدمة. فأن تكون المناسبة صوفيّة ذات طابع روحاني، ثم تُدنّس بقيم الواسطة والسطو على الفضاءات، هو تناقض صارخ بين ما نحتفي به، وبين كيف نحتفي.
المهرجان لحظة فرجة عمومية، وليس غنيمة توزعها السلطات المحلية على المقربين، ولا مجالا لإعادة إنتاج الهرم السلطوي في شكل كراسي أمام المنصّة. التنظيم ليس واجهة شكلية، بل التزام أخلاقي، ومدخل لاحترام الضيوف والحضور على السواء.
وإذا كان كل تنظيم سينهار أمام "فلان قال"، و"سير عند فلان"، فالأجدر أن نعفي أنفسنا من المسرح كله، وأن نعترف بأننا لا نؤمن بالعدالة الثقافيّة، ولا بقيم التشارك، بل فقط بمنطق الزبونية الاجتماعية .
مهرجان عيساوة في مكناس أظهر أن الاحتفال الجماعي لا يزال رهينة ذهنيات لم تتغيّر: ذهنية الوجاهة والمعرفة. وبين تنظيم محكم يُفرغ من مضمونه في أول لحظة ضغط، وجمهور لم يتربّ بعد على ثقافة الاحترام، تظلّ المنصّة منصّة للمحظوظين، لا للمحتفى بهم.